هولندا

عائلات بلدة بلجيكية يستضيفون المرضى العقليين منذ 700 عام.. والنتائج أفضل من المستشفيات

كانت ماريا لينايرتس في السابعة من عمرها حين عادت من المدرسة إلى المنزل في أحد الأيام لتجد شاباً غريباً على طاولة المطبخ. حدث ذلك في سبتمبر/أيلول من عام 1942 في بلجيكا التي كانت واقعة تحت احتلال ألمانيا النازية في ذلك الوقت.

بدا الشاب خائفاً ولم ينطق بكلمةٍ. قالت ماريا: “كان يجلس مُخبِّئاً رأسه بذراعيه، ولم يكن يفهم أي شيء”.

كان هذا أول لقاءٍ جمعها مع جيفكاي هاربانت، الذي كان يبلغ حينها 18 عاماً، ويعاني صعوباتٍ في التعلُّم، ولم يكن لديه مكانٌ ليعيش فيه. وُلِد هاربانت في الجزء الناطق باللغة الفرنسية من بلجيكا، ولم يكن يعرف اللغة الهولندية على الإطلاق. بينما لم تكن ماريا ولا والداها يعرفون اللغة الفرنسية مُطلقاً.

وبالرغم من حاجز اللغة، قرر والدا ماريا -اللذان كانا من مربي الماشية في السهول الفلمنكية- استضافة الشاب. ولم يكن ذلك مجرِّد عملٍ خيري في وقت الحرب، بل نَبَع من تقاليدٍ متأصلة منذ قرونٍ تدعو إلى مد يد العون إلى المُهمَّشين.

استمرت عادة استقبال الغرباء

وعلى مرِّ مئات السنين، كان سكان بلدة غيل (Geel) البلجيكية يستضيفون الغرباء الذين يعانون من أمراض عقلية بالغة أو صعوبات في التعلم. صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً مفصلاً عن هذه البلدة ذات النموذج الفريد.

ولم تكن مدة إقامة هؤلاء الغرباء ليلةً أو بضعة أسابيع، بل كان العديد منهم يمكثون مع العائلة نفسها لسنوات، بل وعقودٍ في كثيرٍ من الأحيان. وبطريقةٍ ما، ظل أحد التقاليد الذي يعود لعصر الشاعر الإنكليزي تشوسر صامداً، وتطوَّر إلى جزءٍ من نظام الرعاية الصحية الحكومي في إقليم فلاندرز البلجيكي.

ففي عام 2018، بلغ عدد المرضى الغرباء الذي يقطنون مع سكان بلدة غيل في بيوتهم 250 شخصاً، وإن اقتصرت تلك الرعاية المنزلية الآن على ذوي الأمراض العقلية، وليس ذوي صعوبات التعلم.

وفي عصرٍ أكثر درايةً بالحصيلة الصاعقة للمصابين بالأمراض العقلية، جَعَل نظام الرعاية المنزلية هذه البلدة الصغيرة الواقعة بالقرب من مدينة أنتويرب البلجيكية، ظاهرةً مثيرة للفضول. ووفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية، يُعاني واحدٌ من بين كل أربعة أشخاص من أمراض عقلية في حياته، ويقول أغلب المصابين إنَّ وصمة العار التي تلحق بهم من جرَّاء مرضهم العقلي تُعمِّق آلامهم.

ابتكار عمره 700 عام

لذا أثَار نموذج بلدة غيل لقبول المرضى أو “اللطف المتأصل” -على حد وصف إحدى المجلات- الاهتمام في جميع أنحاء العالم. إذ تدفَّق أكاديميون وصحفيون إلى البلدة الفلمنكية الصغيرة بحثًاً عن الإلهام من “ابتكار” عمره 700 عام.

يعود تاريخ تقليد استضافة المرضى الشائع في بلدة غيل إلى القرن الثالث عشر، حين كان أشخاصٌ مصابون بجميع أنواع الأمراض يحجُّون إلى كنيسة القديسة ديمفنا. وكانت ديمفنا قديسةً أيرلندية قُتلت في البلدة وفقاً للأسطورةٍ. وكان الحُجَّاج يسافرون أميالاً عديدة إلى كنيستها في غيل طلباً لمعجزاتٍ علاجية. وحين كانت الأماكن المتوفرة في قسم المرضى بالكنيسة تنفد، كان السكان المحليون يستضيفون بقية المرضى.

وفي القرن التاسع عشر، دُمِج تقليد الرعاية المنزلية الذي ابتدعته بلدة غيل في الأنشطة الحكومية لينتهي به المطاف ضمن أنشطة مركز OPZ للرعاية النفسية. ويعاني معظم المرضى المقيمون بالمركز أمراضاً عقلية مستفحلة مثل الفصام أو اضطراب الشخصية. وقالت ميكي سيلين الطبيبة النفسية في مركز OPZ والتي تُشرف على عملية التوفيق بين العائلات الراعية والمرضى: “لديهم تاريخٌ طويل من المرض والإحالات، وليسوا قادرين على العيش وحدهم”.

لا يهمهم معرفة طبيعة مرضهم

لا تُخبر الأسر الراعية أبداً بتشخيص المريض الذين يستضيفونه، وإن كانوا يتلقون تحذيراً بشأن سلوكياته المتوقعة؛ فهل يمكن لهذه الأسر العيش مع شخصٍ يُدخِّن أو يسير في أرجاء المنزل ليلاً؟ تقول الطبيبة ميكي إنَّ القليل من العلاقات بين المرضى ومستضيفيهم تنهار بسبب أسبابٍ كهذه.

وتوصلت دراسةٌ أجراها الأكاديميان البلجيكيان أوجين روزينس وليف فان دي فال على 17 علاقةٍ بين أسرٍ مستضيفة ومرضى على مرِّ 5 سنوات إلى تسرُّب أسرتين فقط من برنامج الرعاية طوال تلك الفترة.

النتائج أفضل من المستشفيات

وقال متخصصون طبيون في غيل إنَّ النظام يُحدِث أثراً جيداً للغاية؛ فنتائج المرضى المقيمين مع الأسر الراعية أفضل من نتائج نظرائهم في المستشفيات؛ إذ يتناولون كميةً أقل من الأدوية، ويُصابون بعددٍ أقل من النوبات الحادة، وفقاً لما ذكرته ميكي.

بينما قال ويلفريد بوغارتس عالِم النفس في مركز OPZ إنَّ نجاح البرنامج يعني “عيش حياة طبيعية قدر الإمكان. فهدف البرنامج يتركز حول الحياة، وهو ليس معجزةً علاجية ولا نظاماً سحرياً، بل يهدف إلى مساعدة المريض على إيجاد المكان المناسب للعيش في الوقت المناسب”.

وأضاف: “في كثيرٍ من الأحيان، يكون المريض مُصاباً بمرضٍ مزمنٍ حادٍ لا يمكن علاجه كُليَّاً، لذا نحاول تحقيق أقصى استفادة ممكنة. نقبل القيود التي يصعب علاجها، لكنَّنا نحاول تحسين حياة المرضى المقيمين مع الأسر الراعية قدر الإمكان”.

بين المناصرين والمعارضين

يرى مناصرو برنامج غيل أنَّ ميزته تكمن في أنَّه يعتبر المريض شخصاً له احتياجاته، ولا يعامله اعتماداً على حزمةٍ من التسميات الموصومة المأخوذة مباشرةً من أحد الكتب الطبية. وقال بوغارتس إنَّ المرضى المُستضافين يُكلَّفون بمسؤولياتٍ منزلية مثل “الاعتناء بالحيوانات الأليفة أو الذهاب إلى السوق لشراء بعض السلع أو غسل الأطباق … ولذلك، تحتاج إليهم الأسر الراعية وترغب في وجودهم”.

بيد أنَّ بعض المراقبين يرون أنَّه لا يوجد دليلٌ كاف على أنَّ البرنامج يُجدي نفعاً بالفعل. إذ قال غراهام ثورنيكروفت الأستاذ في كلية كينغز بلندن: “التقييمات المتوفرة بشأن تأثير البرنامج ضئيلةٌ للغاية. فعلى مستوى نتائج الأفراد، لا نعرف شيئاً عن معدلات إعادة قبول المرضى داخل منازل الأسر الراعية بعد مغادرتهم، ولا معدلات الرضا، ولا مدى جودة الحياة، ولا الأشياء التي عادةً ما نريد تقييمها لذوي الاحتياجات طويلة الأجل”.

حالة استثنائية

يُعَد جيفكاي هاربانت حالةً استثنائية، حتى وفقاً لمعايير الرعاية الأسرية في بلدة غيل. وحين زارت صحيفة The Guardian البريطانية منزل عائلة ماريا الذي يسكن فيه هاربانت، كان عيد ميلاده الرابع والتسعون على بُعد بضعة أيام فقط، لذا طلبت الأسرة كعكة عيد ميلاد له، ووجهت دعوة إلى بعض الأصدقاء لإقامة حفل عائلي.

ما يزال هاربانت يتذكر يوم وصوله إلى مزرعة العائلة قبل نحو 76 عاماً. إذ قالت ميشيل لامبريشت الموظفة المسؤولة عن رعايته التي كانت تؤدي دور المترجمة: “لم يكن خائفاً آنذاك، ولكن كان الموقف صعباً بالنسبة لصبي عمره 18 عاماً حضر إلى بيئةٍ يجهلها”.

أمَّا ماريا، فقد صار عمرها الآن 82 عاماً وعاشت مع هاربانت طوال حياتها تقريباً. وحين توفي والدها في عام 1982، صارت “أمَّاً” راعية لهاربانت، مع أنَّها أصغر منه سناً.

وبعد عقودٍ قضتها مع هاربانت تحت سقفٍ واحد، تلاشت الإشكالات القانونية. إذ قالت من المنزل الذي عاشت فيه طوال حياتها إنَّ هاربانت كأخيها بالفعل، مؤكدةً أنَّها لم تشك قط في أنَّه سيظل معهم دائماً.

أمَّا الأب الراعي لهاربانت، فهو جوليس تونكنز الذي كان عاملاً في أحد مصانع الزجاج لكنَّه تقاعد ويبلغ من العمر الآن 86 عاماً. تزوجت ماريا وجوليس في عام 1957. ويوجد قدحٌ يُميِّز الذكرى السنوية الستين لزوجهما مُزيَّناً ببعض صورهما ذات اللونين الأبيض والأسود التي التقطاها في شبابهما على رفٍّ مليءٍ بالتحف الصغيرة. وبينما كان زوج ماريا يعمل في المصنع، كانت تُربِّي أطفالهما الثلاثة وتعمل في مزرعة العائلة. وكان هاربانت يساعدها بحلب الأبقار ورعاية الخضروات.

ونادراً ما يبتعد هاربانت عن العائلة، فمع أنَّ جمعيات الخدمات الاجتماعية تُقدِّم رعاية مؤقتة في العطلات، لا يحب هاربانت المكوث في المستشفى، وفقاً لما ذكرته ميشيل التي قالت: “حين كان هاربانت يذهب إلى غرفة المستشفى، كان يبكي كثيراً، وكانت دموعه تنهمر على مرِّ ساعات لأنَّه لا يريد البقاء في المستشفى، بل يريد العودة إلى المنزل”.

التقاليد تتلاشى الآن

ينخفض عدد العائلات التي تستضيف المرضى انخفاضاً حاداً في ظل تلاشي تقاليد غيل الريفية وعادات المواظبة على الذهاب إلى الكنائس في البلدة بين طيَّات الماضي. وتزايد عدد النساء العاملات، فيما لا يزال عدد قليل من الناس يمتهنون الزراعة. وأصبحت الأسرة الحاضنة التقليدية تختفي.

وينخفض كذلك طلب المرضى على المكوث مع أسرٍ راعية؛ فالخيارات المتوفرة أمام ذوي الأمراض العقلية الحادة لم تعد مقتصرةً على دخول المستشفى أو المكوث مع أسرة راعية، بل أصبحت تشمل أنواعاً أخرى من الرعاية الداخلية.

بلغ نموذج غيل ذروته عشية الحرب العالمية الثانية، حين وصل عدد المرضى الغرباء الذين يقيمون مع أسر راعية في البلدة إلى 3736 شخصاً. ولكن منذ ذلك الحين، انخفض العدد وتسارعت وتيرة الانخفاض في العقدين الماضيين؛ ففي عام 2006، كان عدد المرضى الغرباء الذين يقيمون مع أسر راعية 460 شخصاً، ثم انخفض حتى وصل إلى 205 أشخاص في الوقت الراهن؛ فمن الصعب إقناع عائلات الأجيال الجديدة باستضافة المرضى الغرباء.

لكنه البرنامج قابل للاستمرار

ويعتقد مركز OPZ أنَّ نموذج غيل يمكنه الاستمرار، لكنَّ ذلك قد يتطلب من الدولة أن تزيد المستحقات التي تحصل عليها العائلات الراعية مقابل استضافة المرضى من الحد الأقصى الحالي الذي يبلغ 600 جنيه إسترليني (535 دولاراً) شهرياً. إذ قال بوغارتس: “صار المجتمع منفتحاً إلى حدٍ كبير للغاية، لذا ينبغي لنا زيادة تعويض الأسر الراعية كي تصبح الاستضافة أكثر جاذبية”.

بينما توصي ماريا باستضافة المرضى الغرباء، لكنَّها تشك في ما إذا كان النظام مناسباً لأسلوب حياة الناس في الوقت الحاضر. وقالت: “لن يستمر نموذج غيل؛ فالناس لديهم الكثير من الأنشطة والترفيه، ولا يملكون وقتاً كافياً”.

وقالت إنَّه لا يوجد أحدٌ من أطفالها أو أحفادها استضاف مرضى غرباء.

عربي بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى