فيروس كورونا: لماذا يعتبر تعامل هولندا مع الوباء محفوفاً بالمخاطر؟
محتوى المقال
اعتمدت هولندا ما وصفتها بـ “سياسية ذكية” فيما يتعلق بإجراءات إغلاق بعض المدن، ورغم ذلك فإن الوباء ينتشر بسرعة وارتفعت معدلات الوفيات الناجمة عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد لتصبح بين أعلى المعدلات في العالم.
كما أنها تواجه تهمة عدم إبداء أي تعاطف مع دول جنوب القارة الأوروبية التي عانت أكثر من غيرها من هذه الجائحة.
وهنا يبرز سؤال ما الذي تسعى هولندا إلى تحقيقه عبر اتباع هذه السياسية؟
هولندا هي من بين قلة من الدول التي اعتمدت بشكل واضح سياسة “المناعة الجماعية” المثيرة للجدل. ووصف أحد الخبراء الهولنديين البارزين على المستوى العالمي موقف الحكومة الهولندية في هذا المجال بأنه “عقلاني ومحسوب”.
تجاهلت هولندا الإجراءات المشددة التي تبنتها جاراتها واتبعت سياسة إغلاق “ذكية” أو “هادفة” بهدف تقليل الخسائر الاقتصادية والنفسية الناجمة عن سياسة “العزل الاجتماعي” وبالتالي جعل العودة إلى الأوضاع الاعتيادية أكثر يسراً وأقل حدة.
المحلات المجاورة لسكني مثل بائع الورود والخباز ومحل بيع ألعاب الأطفال ومحال بيع الطعام كلها تعمل بشكل اعتيادي. فقط تم تعليق لوحات على أبواب المحال وأشرطة لاصقة على الأرض تدعو الزبائن إلى ترك مسافة بينهم بينما يرتدي القائمون على نقاط الدفع قفازات طبية.
المحلات التي تم إغلاقها شملت فقط تلك التي تتضمن أنشطتها الملامسة بين الزبائن والعاملين فيها مثل الحلاقين وصالونات التجميل وأماكن الدعارة.
أما المدارس ورياض الأطفال والجامعات فهي مغلقة حتى الثامن والعشرين من الشهر الجاري.
كما تم إغلاق البارات والحانات والمطاعم ومقاهي بيع مخدر الحشيش، لكن يبدو أن خدمات التوصيل إلى المنازل في هذه المحلات مزدهرة جداً.
ويوضح الدكتور لويس فان شايك، من معهد العلاقات الدولية كلينغندايل: “نظن أننا نتمتع بموقف عقلاني متوازن، لا نريد أن نبالغ في رد فعلنا ونجبر كل شخص على سجن نفسه داخل منزله، ومن السهل عزل الأجيال عن بعضها في هولندا لأن الأجداد والأحفاد لا يعيشون هنا تحت سقف واحد”.
نصحت الحكومة المواطنين التزام منازلهم لكن بمقدور الناس الخروج، خاصة من لا يستطيع العمل من المنزل أو من يحتاج شراء حاجاته من البقال أو بغرض الترويح عن النفس، شريطة البقاء على بعد متر ونصف المتر من الآخرين.
ويبدو أن الهولنديين ملتزمين إلى حد بعيد بهذه التعليمات فقد أظهر استطلاع للرأي جرى مؤخرا أن 99 في المئة من الناس تتبع سياسة التباعد الاجتماعي، بينما أكد 93 في المئة أنهم يمكثون في بيوتهم أطول وقت ممكن.
ووصف رئيس الحكومة الهولندية مارك روته، بلاده بأنها “دولة ناضجة”، وأضاف: “ما أسمعه من الناس حولي أنهم سعداء لأن الحكومة تعاملت معهم باعتبارهم مواطنين ناضجين وليسوا أطفالاً”.
وبالكاد تلاحظ أن هناك إجراءات للحد من حركة الناس الشيء الوحيد الملحوظ هو أن المدن باتت أكثر هدوءاً. ورغم ذلك الأطفال لايزالون يتسلقون الهياكل المعدنية في ملاعب الأطفال والمراهقون يسيرون بجانب بعضهم وهم على دراجاتهم الهوائية.
كيف تجاوزت هولندا المملكة المتحدة في “المناعة الجماعية”.
عندما أعلن كبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية عن خطة الحكومة اتباع سياسة خلق “المناعة الجماعية” بين البريطانيين، أوضح الخبراء، خلال أيام، أن تحقيق هذا الهدف سيكلف بريطانيا ربع مليون ضحية مما اضطر الحكومة إلى تغيير موقفها فوراً.
إن السماح بانتشار الفيروس في أوساط الناس بغية خلق المناعة الجماعية يعني ضمنا الموافقة على موت الناس.
وقد تبنت الحكومة الهولندية نفس الموقف في بداية الأمر، لكنها لاحقا أعادت صياغة موقفها سريعاً وقالت إن المناعة الجماعية ليست هدفاً لها لكنها نتيجة ثانوية.
وقد لخص روته، موقف حكومته في هذا المجال عبر كلمة متلفزة له في 16 مارس/آذار الماضي بقوله: “يمكننا تأخير انتشار الفيروس وفي نفس الوقت خلق المناعة ضده لدى الناس بطريقة منضبطة وتحت السيطرة”.
وأضاف: “علينا أن ندرك أن خلق المناعة المطلوبة بين الناس قد يستغرق أشهراً عدة أو أكثر وخلال هذه المرحلة علينا حماية الناس الأكثر عرضة للخطر قد الإمكان”.
ويعتقد البروفيسور كلاس دو فريس، من جامعة امستردام أن الحكومة البريطانية لم تمتلك الأدوات اللازمة لاعتماد مثل هذه السياسية وبدا الأمر وكأنها “تخاطر بحياة الناس وتجعلهم مادة لتجربة جماعية غير معهودة”.
هل هي ناجعة؟
كشفت هيئة الصحة الهولندية عن البدء بدراسة تهدف إلى معرفة مدى نجاح جهاز المناعة للأشخاص، الذين أصيبوا بالفيروس، في تطوير أجساماً مضادة للفيروس عند الإصابة به للمرة الثانية.
وتصف البروفيسورة أورا تيمن، من هيئة الصحة الهولندية التجربة بأنها تشبه “إنتاج تطعيم داخلي عبر التعرض للفيروس وبعدها ترك الجسم يخلق أجساما مضادة للفيروس بشكل طبيعي، وبالتالي إنتاج التطعيم الذي لا يتوفر في العالم في الوقت الراهن”.
وأكدت أن الحكومة الهولندية تفعل كل ما بوسعها للحد من انتشار الفيروس وتفادي انتشاره على نطاق واسع خلال فترة قصيرة.
وتواجه هولندا، التي بالكاد يتجاوز عدد سكانها 17 مليون شخص، معضلة تزايد أعداد الوفيات جراء الإصابة بالفيروس.
وتضيف تيمن: “نمتلك نظاماً متقدما للإبلاغ عن عدد الأشخاص الذين أصيبوا بالفيروس والذين دخلوا المستشفيات وكذلك عدد الوفيات”
مواجهة الحقيقة
تسعى هولندا جاهدة إلى زيادة طاقة المستشفيات لديها قبل الوصول إلى ذروة انتشار الفيروس المتوقعة بعد أسبوعين. وبلغ عدد الوفيات خلال 24 ساعة ماضية 175 حالة، ووصلإجمالي الوفيات إلى إلى 1650 شخصاً بينما دخل 6600 مصابا إلى المشافي.
وتم نقل بعض المرضى إلى ألمانيا للحد من اكتظاظ المشافي بينما تم تحويل قاعة الحفلات التي كانت ستستضيف مسابقة الأغنية الأوروبية يوروفيجن 2020 إلى مركز طوارئ.
كما هناك خطط لمضاعفة عدد الاختبارات أربعة أضعاف واخضاع العاملين في مجال الصحة الذين لا يتعاملون مع مرضى الفيروس لاختبارات. ورغم كل ما تم انجازه لم يخل الأمر من أخطاء.
فقد تبين أن مليون قناع وجه من الصين غير مطابقة للمواصفات وأعيدت تلك الأقنعة فورا.
كما أن هناك نقصا في ملابس الوقاية من الفيروس للعاملين في مجال الوقاية منه. وقد بادر الطلاب في جامعة ديلف إلى تحويل نظارات الغطس في الماء إلى أقنعة جراحية بينما يقوم أحد الفنانين بجمع الأقمشة من المتبرعين وإعطائها لخياطين متطوعين لتصنيع أقنعة وجه للعاملين في الصفوف الأمامية في معركة مواجهة الفيروس.
كيف أثارت هولندا غضب إيطاليا؟
الهولنديون من أنصار الاتحاد الأوروبي شعروا بالصدمة عندما وجهت شخصيات إيطالية بارزة انتقادا لألمانيا في إحدى الصحف الألمانية البارزة، متهمين إياها بـ “الافتقار إلى الأخلاق وروح التضامن على كل المستويات”.
والمعروف أن ألمانيا وهولندا أظهرتا معارضة شديدة لتخفيف عبء الديون المترتبة على دول أوروبا الجنوبية عبر إصدار سندات تحمل اسم “سندات كورونا”.
ويساهم البلدان في موازنة الاتحاد الاوروبي ويتلقيان منه أقل مما يقدمانه من مساهمات.
ويرى المحاضر في مجال الصحة الدولية في جامعة ماستريخت رامكو فان دو باس، أن الموقف “المتغطرس والبخيل” لهولندا كان يتوقع أنه سيلقى رداً غاضباً ويكون له تداعيات سلبية حتى على هولندا.
ووصف الرئيس السابق لمصرف هولندا المركري الموقف قائلاً: “إذا انهارت دول جنوب أوروبا ستختفي دول الشمال الغنية”.
وتعتمد هولندا في صادراتها على الدول الأوروبية الأخرى حسب البروفيسور كلاس دو فريس، ومن مصلحة الجميع “تجاوز هذه الأزمة من الناحية الاقتصادية بحيث يخرج الاتحاد الأوروبي واليورو أكثر قوة”.
وقد أقر وزير المالية الهولندي بأن موقف بلاده من الأزمة التي تمر بها دول أوروبا الجنوبية “لم يكن سليما”، وقال بأنه كان “يفتقر إلى حس التضامن”.
واقترح رئيس الحكومة الهولندي مارك روته، على الاتحاد الأوروبي تمويل التكاليف المباشرة لمواجهة فيروس كورونا في الدول الأوروبية عبر مساهمة الدول الأعضاء في الاتحاد، واعتبار المبلغ الذي تتلقاه كل دولة هبة غير مستردة للدول التي تحتاج إلى المساعدة.
وفيما يتعلق بمبدأ “الإغلاق الذكي” الذي تعتمده هولندا بناء على الأدلة والأرقام، فإنه يختلف تماما عن الإغلاق الأكثر صرامة والذي اعتمدته جارتها بلجيكا التي شهدت أيضا ارتفاعاً كبيراً في أعداد الضحايا.
ويرى الدكتور فان دو باس أن خطة الحكومة الهولندية لمواجهة فيروس كورونا قد تكون ناجعة في المجتمعات ذات الطابع الفردي الشديد والتي لا تعرف تدخل الدولة في مجال الوقاية من الأمراض من المهد الى اللحد.
إن “المناعة الجماعية” قد تحد من آثار هذا الوباء لكن يجب أن تحظى بقبول جزء كبير من المواطنين.
وهناك مخاوف من أن تكون المقاربة الهولندية مبنية على “أمنيات” بدلاً من العقل وأن “الإغلاق الذكي” التي تعتمده البلاد لن يوفر المناعة لها ضد المرض.