«سياحة الموت».. دول تعطي حق الانتحار داخل حدودها وهولندا في المقدمة!
![](https://ukinarabic.co.uk/wp-content/uploads/2018/06/234-1.png)
![](https://ukinarabic.co.uk/wp-content/uploads/2018/06/234-1.png)
منذ أيام سافر عالم النبات الأسترالي ديفيد جودال، عابرًا حدود دولته، لينهي حياته ببلدٍ غريب، في إحدى عيادات الموت الرحيم، عن عمرٍ يناهز 104 عامًا. كان جودال في صراعٍ استمر لسنوات؛ إذ بدأت صحته في التدهور بعد سن التسعين، حتى أصبح جسده عاجزًا على أن يحمله، خاصةً في عامه الأخير؛ إذ منعه الأطباء من عبور الشارع وحده، أو استخدام المواصلات العامة، وهو الأمر الذي حصر حياته في منزله ذي الغرفة الواحدة؛ يقول جودال عن ذلك: «حالتي الصحية تصبح أسوأ وأسوأ كل يوم، وهو ما جعل مني رجلًا تعيسًا، أريد أن أموت ولا أريد لأحد أن يتدخل في ذلك».
قام جودال بعدة محاولاتٍ فاشلة للانتحار، حتى أيقن في النهاية أنه يحتاج إلى المساعدة لكي ينهي حياته فعلًا، وعلى الرغم من رغبته في أن يموت ببلده، بين الأهل والأصدقاء، إلا أن القوانين الأسترالية تمنع ذلك، وهو الأمر الذي دفعه للسفر إلى سويسرا، مجبرًا للحصول على «منحة الانتحار»، كما يصفها.
قضى عالم النباتات الأيام الأخيرة من حياته محاولًا جعل الانتحار التطوعي، وعيادات الموت الرحيم مقننة داخل أستراليا، قائلًا أن مواطنًا «قديمًا» مثله يجب أن يتمتع بكل حقوق مواطنته، بما في ذلك «الحق في الموت»، مُضيفًا: «يجب أن يتمتع الفرد بحرية إيجاد الطريقة المناسبة التي يود بها أن يقضي آخر أيام حياته، وإن كان ما يوده إنهاءها، فمن العادل ألا يتدخل أحد»؛ فهل الموت حق من حقوق الإنسان؟، ولماذا يقبل البعض على عيادات الموت الرحيم؟
«سياحة الانتحار».. هولندا تتصدر القائمة
تتخذ عيادات الموت الرحيم، في البلاد التي تقنن هذا الفعل، شعار الموت بكرامة، الموت حقًا، وفي سويسرا على سبيل المثال، هناك عدد من تلك العيادات في مدينة زيورخ منذ عام 1998، والتي تمارس نشاطها بناءً على بعض القواعد، إذ تشترط أن تكون حياة الفرد تحمل من المعاناة ما يجعلها غير محتملة.
يتم تصنيف تلك العيادات على أنها مجتمع غير هادف للربح، يضمن لأعضائه وضع حد للحياة، ويترك لهم حرية الاختيار بين الموت في المنزل بين الأهل والأصدقاء، أو الموت في إحدى المنازل التابعة للمؤسسة، لكن يجب على الأعضاء أولًا إثبات حالتهم العقلية السليمة أثناء اتخاذ القرار.
هناك يمكن للفرد أن يتقدم بطلبٍ رسمي، يشرح فيه رغبته في الموت ودوافعها، ويتم التصديق على هذا الطلب من قبل مجموعة من الأطباء المستقلين خارج المنظمة، ويكون على رأس تلك القائمة الأشخاص الذين يعانون من أمراضٍ جسدية شديدة، وتعتبر سويسرا في مقدمة البلاد التي تمنح هذا الحق للمواطنين وغير المواطنين، وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار ما عُرف بـ«سياحة الانتحار»، إذ سافر العديد من المرضى البريطانيين في السنوات الأخيرة إلى زيورخ من أجل إنهاء حياتهم.
ليست سويسرا هي الدولة الوحيدة التي تقنن الموت الرحيم، إذ تشمل القائمة بلدانًا أخرى، مثل ألمانيا وبلجيكا وبعض الولايات الأمريكية، أما هولندا، فتعتبر على رأس القائمة، إذ كانت الدولة الأولى التي أضفت صفة الشرعية على الموت الرحيم؛ وتشير الإحصائيات إلى أن نسب الانتحار التطوعي فيها قد تزايدت في السنوات الأخيرة؛ إذ إن ما بين كل 20 حالة وفاة هناك وفاة نتيجة للقتلِ الرحيم، أي 4.5%، وذلك عام 2015، وهي نسبة مرتفعة بالنسبة إلى البلدان الأخرى، فيقول الدكتور آغنيس فان أن المرضى أصبحوا الآن أكثر رغبة في طلب الموت الرحيم، والأطباء أكثر رغبة في منحه.
ويقوم المتخصصون بتقسيم تلك النسب إلى فئتين: «انتحار بمساعدة الطبيب، والموت الرحيم»؛ إذ يتم التعامل معهما كأنهما مصطلحين لهما معنيان مختلفان، الانتحار بمساعدة يعني أن المريض يأخذ في نهاية المطاف دواء الموت بنفسه، ودور الطبيب هنا هو تسهيل الأمرِ فقط، وهو مصطلح يشمل المرضى الذين لا يعانون من مرضٍ عضال، ولكنهم يرغبون في إنهاء حياتهم، أما القتل الرحيم ففيه يقوم الطبيب بتخدير المريض عميقًا حتى الموت، ويشمل الأشخاص الذين هم على قائمة الانتظار للموت، ولكنهم يريدون أن يتعجلوه ليتخلصوا من الألم الجسماني للمرض الذي يعانون منه، ومنهم كبار السن، الذين تجاوزوا السبعين من عمرهم، وتدهورت صحتهم، إلى حدٍ منعهم عن ممارسة أنشطة الحياة.
لماذا يقدم البعض على طلب المساعدة في الانتحار؟
عندما أقدم ديفيد جودال على طلب المساعدة للانتحار، كانت دوافعه كلها تتلخص في أن جودة حياته لم تعد كما كانت، فيقول في وداعه الأخير: «أتمنى أن تصبح قصتي مُلهمة للكثير من الدول، فتمنح كبار السن الحرية في اختيار موتهم»، مُشيرًا إلى أنه لم يتردد لحظة وقت اتخاذ القرار؛ إذ إن رؤيته وقدراته الجسدية قد بدأت في الانهيار، مُضيفًا: «لا أريد العيش بهذه الطريقة».
كان جودال واحدًا من 200 أجنبي يسافرون إلى سويسرا كل عام من أجل الموت؛ وعلى الرغم من أنه لا يعاني من مرضٍ عضال؛ إلا أن فقدان متعة الحياة وعدم قدرته على ممارسة الأنشطة التي اعتادها، كانا كافيان بالنسبة إليه لاتخاذ الخطوة الأخيرة نحو الموت، فذهب إلى إحدى عيادات الانتحار السويسرية، وبصحبته حفيده دانييل، وممرضة قديمة لديه، وهو على استعدادٍ تام لتناول الدواء القاتل، ونظرًا لعدم قدرة جودال على البلع، فقد تم حقنه بالمادة المميتة عبر الوريد.
يشترط القانون السويسري أن يقوم المريض بإنهاء حياته بنفسه، ولذلك تم تصوير جودال وهو يقوم بفتح الصمام الذي سيسمح لتلك المادة بالسريان عبر دمائه، كان ذلك في العاشر من مايو ( آيار) الماضي، الساعة 12:30 ظهرًا، حيث وافته المنية وهو يستمع لجزء من سيمفونية بيتهوفن التاسعة.
لم يكن جودال هو الوحيد الذي قرر إنهاء حياته نظرًا لعدم قدرته على الاستمتاع بها، نظرًا لكبر سنه، ففي إحدى عياداتالموت الرحيم في هولندا، وأمام مكتب الطبيب ستيفن بليتر، هناك صور معلقة لرجلٍ تجاوز السبعين من عمره، مُحاطًا بأسرته أثناء تناوله العقار القاتل.
كان الطبيب بليتر ينظر إلى الصورِ بفخرٍ، كمثال على الموت بطريقةٍ جيدة، أما الرجل المُسن، فلم يكن مريضًا بأي مرضٍ عضال؛ إلا أنه قد تم تشخيصه بالخرف وأمراضِ الشيخوخة، في مراحلها الأولى، وهو الأمر الذي دفع بهذا المريض إلى طلب المساعدة لإنهاء معاناة الشيخوخة قبل أن تبدأ، وهو الأمر الذي يشير إليه الطبيب باعتباره مبدأ من مبادئ تلك العيادات، وهو أن تصبح الحياة عبارة عن معاناة لا تحتمل.
يشير الطبيب أوبرت بيرلمان أستاذ الطب في جامعة واشنطن إلى أن أشهر الدوافع وراء الوفاة بمساعدة طبيب هي عدم كفاية مسكنات الآلام للتعامل مع الألم الذي يشعر به المريض، وما يصاحب ذلك من يأس واكتئاب، أو ضغوط اجتماعية واقتصادية مثل الخوف من الاعتماد المتزايد على أفراد الأسرة سواء استنزافهم نفسيًا، أو ماديًا جراء تكاليف الرعاية الصحية، أما ليندا جانزيني أستاذة الطب النفسي في جامعة أوريغون فتقول إنه طبقًا للممرضات فإن أغلب الحالات التي سعت لطلب المساعدة في الموت، كانوا يتناولون أدوية قاتلة في حد ذاتها، لكنهم أرادوا التحكم في ظروف الموت، وذلك من خلال توديع الحياة في المنزل بطريقةٍ هادئة بين العائلة والأصدقاء.
أما التقرير السنوي الثامن لقسم الخدمات الإنسانية في جامعة أوريغون والصادر في التاسع من مارس 2006، عن الأعداد التي لقت حتفها من خلال الموت الرحيم عام 2005؛ فيشير إلى أن أغلب الدوافع الأخرى كانت تنحصر في عدم القدرة على الاستمتاع بأنشطة الحياة بنسبة تصل إلى 89%، وفقدان الاستقلالية والاعتماد على الذات، وفقدان الكرامة؛ إذ أبلغ الأطباء أن تلك العوامل الثلاث تعتبر من المحفزات القوية في طلب المريض المساعدة لإنهاء حياته بحسب ما حدث السنوات الثمانية الماضية، وقد تم دعم تلك الشهادات من قبل مقابلات أفراد أسر المرضى ودراسة الممرضات والموظفين الاجتماعيين الذين قاموا برعايتهم.
«الموت على طريقة جودال».. شخصيات شهيرة أنهت حياتها بنفسها
لم يكن جودال هو الحالة الشهيرة الأولى من نوعها التي تزلزل الرأي العام العالمي حول مسألة الموت الرحيم؛ إذ وخلال عام 2017، أنهى الموسيقار الإيطالي «فابيانو أنطونياني» حياته، في إحدى العيادات بسويسرا أيضًا، وذلك عن عُمر يناهز 40 عامًا.
كان أنطونياني قد عانى من العمى والشلل الرباعي، جراء حادثة سيارة، كادت أن تودي بحياته عام 2014، إلا أنها تركت جسده ميتًا على أية حال، وطوال ثلاث سنوات، ناشد الموسيقار الإيطالي، البرلمان، من أجل أن يسمحوا له بالموت في بلاده بكرامة؛ إلا أن البرلمان الإيطالي قد قام برفض طلبه 11 مرة، وهو الأمر الذي اضطره في النهاية إلى السفر إلى سويسرا للتخلص من الحياة.
«أخيرًا أنا في سويسرا، وللأسف وصلت إلى هنا بمفردي وليس بمساعدة بلدي»، كانت تلك هي رسالته الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ انتقد القوانين في بلده الأم، والتي لم تسمح له بالوفاة في أراضيها، وهو ما أشار إليه روبرتو سافيانو، صحافي إيطالي وصديق لأنطونياني قائلًا: «لا يوجد أي مبرر لهذا النقص الحاد في الإنسانية والتعاطف والانتباه، والذي عاني منه أنطونياني من البرلمان الأوروبي، ومن البلد التي ولد فيها»؛ إذ إن الموت الرحيم غير قانوني في إيطاليا، بوصفها دولة كاثوليكية تقليدية.
على الرغم من أن تشريع الحق في الانتحار وطلب المساعدة في الموت، هو أمر جديد لم يتجاوز بضعة عقود في قلة قليلة من الدول؛ إلا أن هناك العديد من الحالات الشهيرة التي أنهت حياتها على طريقة جودال، قبل أن يعرف العالم حتى بعيادات الموت الرحيم، كان على رأسهم جورج الخامس، ملك المملكة المتحدة منذ عام 1910 وحتى عام 1936؛ إذ أصيب جورج بجروحٍ خطيرة إبان الحرب العالمية الأولى، والتي أدت إلى تفاقم مشاكل التنفس الموجودة لديه بسبب التدخين المفرط، جنبًا إلى جنب مع العديد من الأمراض، وفي 20 يناير (كانون الثاني) عام 1936، وصل جورج إلى حالة صحية سيئة وغير محتملة، دفعت طبيبه الخاص إلى إعطائه حقنة مميتة من الكوكايين والمورفين؛ وذلك من أجل الموت بكرامة، بحسبه.
وفي عام 1966، أنهى الناشط السياسي والكاتب الهندي إنياك دامودار حياته، وهو أحد المتهمين في اغتيال المهاتما غاندي، وذلك عن طريق امتناعه عن الدواء الذي كان يبقيه على قيد الحياة.
أما القضية التي كانت السبب في تحريك الرأي العام العالمي، والأمريكي خاصة نحو مسألة «الحق في الموت»، فكانت لمواطنة أمريكية تدعى تيري شيافو، في السادسة والعشرين من عمرها والتي تعد أكثر حالات القتل الرحيم شهرة. تعرضت شيافو لأزمة قلبية في عام 1990، تُركت على إثرها في حالة غيبوبة مستمرة، مع توقفٍ تام للوظائف الدماغية تقريبًا، وظلت على قيد الحياة، بأنابيب التغذية على هذه الحالة لأكثر من عقدٍ من الزمان، وذلك قبل أن يبدأ زوجها القيام بحملة تسمح لها بالموت.
تحولت تلك القضية بعد قليل إلى قضية رأي عام، تحمل مؤيدين لكلتا وجهتي النظر، فمنهم من وجد في بقائها على قيد الحياة إطالة لأمد معاناتها، وشجع فصل أنابيب التغذية عنها، من أجل أن تنعم أخيرًا بالرحمة، أما البعض الآخر فقد وجد في قتلها بعدًا غير أخلاقي، استمرت القضية منذ عام 1990 وحتى 2005، وذلك حين سمحت المحكمة رسميًا وقانونيًا بفصل أنابيب التغذية عن جسدها أخيرًا في 18 مارس (آذار) من عام 2005، لتلقى حتفها يوم 31، لتكون بذلك الحالة الأولى التي وضعت أمر القتل الرحيم على الطاولة من أجل مناقشته عالميًا، ووضع قوانين وتشريعات خاصة به.
المصدر: ساسة بوست